الفن الشنكالي: هوية تمتزج بالألم والصمود
مرَّ الفن الشنكالي بمراحل متعددة عبر التاريخ، وكان دائمًا أكثر من مجرد
وسيلة تعبير فنية، بل شكل هوية ثقافية متجذرة في أعماق المجتمع الشنكالي، ومرآة تعكس
معاناته، أفراحه، وأحلامه. لم يكن الفن مجرد كلمات وألحان، بل كان ذاكرة جماعية تحفظ
تاريخ الإيزيديين وتنقل مآسيهم وانتصاراتهم عبر الأجيال .
الفن كوسيلة للتوثيق التاريخي
برز الفن الشنكالي بشكل لافت في فترات الأزمات والمحن، خاصة خلال حملات
الإبادة الجماعية التي استهدفت الإيزيديين عبر العصور. في ظل غياب وسائل التوثيق الحديثة
مثل التصوير الفوتوغرافي والفيديو، كان الشعراء والمغنون هم المؤرخون الحقيقيون الذين
سجلوا الأحداث عبر قصائدهم وألحانهم
كان العديد من هؤلاء الشعراء والمغنين يؤدون فنهم بشكل ارتجالي، حيث تأتي
الكلمات عفوية، لكنها مليئة بالمشاعر الصادقة التي تعكس حجم الألم والمعاناة. حتى يومنا
هذا، لا تزال تلك القصائد تُردد، وتحمل في طياتها شهادات حية لما مر به الإيزيديون،
لتصبح جزءًا من الذاكرة الجماعية التي تحمي التاريخ من النسيان
الفن كوسيلة للشفاء النفسي والاجتماعي
لم يكن الغناء الشنكالي مجرد أداة للحفاظ على التاريخ، بل كان أيضًا وسيلة
علاج نفسي يستخدمها المجتمع في لحظات الفقد والحزن. عند وفاة شخص عزيز، كانت العائلات
تجتمع وتبدأ في ترديد الأغاني الحزينة، ممزوجة بالبكاء والنحيب، وكأن الموسيقى كانت
وسيلة لتفريغ المشاعر والحداد المشترك
هذا التقليد لم يكن مجرد طقس عابر، بل هو جزء من الفلسفة المجتمعية التي
ترى في الفن وسيلة للبوح والتعبير عن الألم، بدلاً من كبته. وهذا يفسر لماذا لا تزال
هذه العادة قائمة حتى اليوم، حيث يلجأ الكثير من الشنكاليين إلى الغناء عند مواجهة
المآسي كنوع من التفريغ العاطفي والتضامن الجماعي
دور الفن في المقاومة والمعارك
كان للفن الشنكالي دور فعال أيضًا في اللحظات المصيرية، وخاصة في المعارك
الدفاعية التي خاضها الإيزيديون عبر التاريخ. لم يكن الغناء مجرد تسلية، بل كان أداة
تحفيزية تشعل الحماس في نفوس المقاتلين، وتشجعهم على المقاومة
تلك الأغاني لم تكن مجرد كلمات، بل كانت تروي قصص البطولة والصمود، وتزرع
في النفوس العزيمة للاستمرار. كما كانت هناك أغانٍ خاصة تنشد للانتصارات، حيث يحتفل
الناس بالمقاومة من خلال الفن، وكأنهم يؤكدون أن هويتهم لن تُمحى بالسيف، بل ستظل خالدة
في الألحان والكلمات
الفن في الحياة اليومية: من الأعمال الشاقة إلى الاحتفالات
لم يكن الفن الشنكالي مقتصرًا على لحظات الحزن والمعارك، بل كان حاضرًا
بقوة في الحياة اليومية. أثناء العمل في الحقول، أو أثناء رعاية الأغنام، كان الناس
يتغنون بأغانٍ تعكس واقعهم، وتمزج بين مشاعر الحب، التعب، والطبيعة
في المناسبات الاجتماعية، كانت الأغاني والرقصات الشعبية تمثل جزءًا أساسيًا
من الطقوس الجماعية، حيث يجتمع الناس حول الموسيقى ويتشاركون لحظاتهم السعيدة. وحتى
اليوم، لا تزال الأغاني الشنكالية تُغنى في الأعراس والمناسبات، مما يدل على استمرارية
هذا التراث عبر الأجيال
خصائص الفن الشنكالي وتميزه عن الفنون الكردية الأخرى
يمتاز الغناء الشنكالي بطابعه الخاص الذي يميزه عن بقية ألوان الغناء
الكردي. فهو يتميز بلون موسيقي فريد، يحمل في طياته مزيجًا من الحزن والجمال، مما يجعله
مميزًا من حيث اللحن والأداء
على الرغم من أن الفن الشنكالي جزء من الفلكلور الكردي، إلا أن له طابعًا
مستقلًا من حيث الأسلوب الموسيقي والمواضيع التي يتناولها. ففي حين أن بعض الألوان
الموسيقية الكردية الأخرى تميل إلى الغزل والطبيعة، نجد أن الفن الشنكالي يركز بشكل
أكبر على التاريخ، الهوية، والمعاناة، مما يجعله فنًا مرتبطًا بالذاكرة الجمعية أكثر
من كونه مجرد لون موسيقي
التحديات التي واجهها الفن الشنكالي في العصر الحديث
مع تعاقب الأزمنة، واجه الفن الشنكالي بعض التحديات، حيث بدأت بعض التقاليد
الموسيقية بالتراجع أمام التغيرات الثقافية والتكنولوجية. أصبح الفن التقليدي يواجه
منافسة من الموسيقى الحديثة، كما أن قلة الاهتمام بالتوثيق قد تسببت في ضياع بعض الأعمال
الفنية القديمة
ومع ذلك، لا يزال هناك جيل جديد من الفنانين الشنكاليين الذين يسعون إلى
الحفاظ على هذا التراث وإحيائه من خلال تسجيل الأغاني القديمة، وتنظيم الفعاليات التي
تركز على إحياء هذا اللون الفني المميز
الخاتمة
الفن الشنكالي ليس مجرد تراث غنائي، بل هو روح وثقافة، وسجلٌ تاريخيٌ
حيٌّ ينقل معاناة وأفراح الإيزيديين من جيل إلى آخر. إنه صوت من لا صوت له، وسلاح من
لا سلاح له، وذاكرة مجتمع قاوم الفناء بالألحان والكلمات
ورغم كل التحديات، سيظل الفن الشنكالي شاهدًا على صمود شعبه، ووسيلة لحفظ
تاريخه وتراثه من الضياع. فكلما غنى الشنكاليون، فإنهم لا يغنون فقط للحياة، بل يغنون
للبقاء